سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {عند الله}: معمول لعدة؛ لأنها مصدر، و{في كتاب الله}: صفة لاثني عشر، و{يوم}: متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي: ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان. وقوله: {منها}: أي: الأشهر، ثم قال: {فيهن}. وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ: منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت: منهن وفيهن، قال تعالى: {يَأكُلُهُنّ} [يوسف: 46] وقال هنا: {فيهن}. انظر الإتقان. و{كافة}: حال من الفاعل أو المفعول.
يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ عِدَّة الشهور} في كل سنة {عند الله}؛ في علم تقديره، {اثنا عشرَ شهراً}: أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذه العدة ثابتة {في كتاب الله}؛ اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، {يومَ خَلَقَ السموات والأرض}، هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، {منها} أي: الأشهر {أربعة حُرُم}، واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، {ذلك الدين القيم} أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، {فلا تظلموا فيهن أنفسَكم}؛ بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله: {وقاتلوا المشركين كافةً} أي: في الأزمنة كلها؛ {كما يُقاتلونكم كافة}؛ لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم.
وقال عطاء: لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحَرم، إلا أن يُبدئوا بالقتال، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. {واعلموا أن الله مع المتقين} بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة: أهل الفهم عن الله: الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول: كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضي الله عنه: الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. اهـ.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك؛ لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفسهم، ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذه الإشارة بقوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}؛ بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد.


قلت: {النسيء}: التأخير، يقال بالهمزة وبقلبها ياء.
يقول الحق جل جلاله: {إنما النسيءُ}، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها، فيجعلونها في شهر حرام، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة، وإنما ذلك {زيادةٌ في الكفر}؛ لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم، {يُضَلُّ به الذين كفروا} عن الحق، ضلالاً زائداً على ضلالهم، أو يضلهم الله بذلك، {يُحلونه عاماً} أي: يحلون الشهر الحرام عاماً، ويجعلون مكانه آخر، {ويحرمونه عاما}، فيتركونه على حرمته، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون.
قيل: أول من أحدث ذلك: جُنادَهُ بن عوف الكناني؛ كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي من قابل: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، فتتبعه العرب.
ثم حرّموا شهراً آخر مكان المحرم {ليواطئُوا}؛ ليوافقوا {عِدَّةَ ما حرّمَ الله}، وهي الأربعة الحرم، {فيُحلّوا ما حرّم الله} عليهم من القتال في الأشهر الحرم، {زُيِّنَ لهم سوء أعمالهم} أي: خذلهم وأضلهم، والمُزين حقيقة: الله، أو الشيطان؛ حكمةً وأدباً. {والله لا يهدي القوم الكافرين} إلى طريق الرشد، ما داموا على غيهم، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: إنما تأخير التوبة واليقظة، وترك السير إلى مقام التصفية والترقية، زيادة في البعد والقسوة، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة، فتارةً يُحلون المقام مع النفس الأمارة، ويقولون: قد انقطعت التربية، وعُدِمَ الطبيبُ الذي يداويها ويخرجها عن وصفها، وتارة يُحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها، ويقولون: البركة لا تنقطع، والمدد لا ينعدم، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها في قوله: {والذين جاهدوا فينا}، وبين من قال: قد انقطعت التربية، زُين له سواء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم.


قلت: {اثاقلتم}، أصله: تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء، وجلبت الهمزة للساكن، وقرئ على الأصل، وضمن الإخلاد، فَعُدِّيَ بإلى.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله}؛ للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {اثَّاقلتُم} أي: تباطأتم وأخلدتم {إلى الأرض} كسلاً وفشلاً، وكان ذلك في غزوة تبوك، أُمروا بها بعد رجوعهم من الطائف، في وقت عسر، وحَر، وبُعد الشقة، وكثرة العدو، فشق عليهم ذلك، {أرضيتُم بالحياة الدنيا} وكدرها، {من الآخرة}، بدل الآخرة ونعيمها، {فما متاع الحياة الدنيا} أي: التمتع بها في جانب الآخرة، {إلا قليلٌ}؛ مستحقر، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر.
{إلاّ تنفرُوا} مع رسوله إلى ما استنفرتم إليه، {يُعذبكم عذاباً إليماً} في الدنيا والآخرة، في الدنيا: بالإهلاك بأمر فظيع، كقحط وظهور عدو، وغير ذلك من المهلكات، وفي الآخرة: بعذاب النار. {ويستبدلْ} مكانكم {قوماً غيركم} في الدنيا، يكونون مطيعين لله ورسوله، كأهل اليمن، وأمثالهم، {ولا تضرُّوه شيئاً}؛ إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً، فإنه الغني عن كل شيء، في كل وقت. وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله وعده بالعصمة والنصرة، ووعده حق، {والله على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء، فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد، كما فعل معه في الغار والهجرة، على ما ياتي.
الإشارة: ما لكم إذا قيل لكم: انفروا إلى من يُعرفكم بالله، ويعلمكم كيف تجاهدون نفوسكم في طلب مرضاة الله، اثاقلتم وأخلدتم إلى أرض الحظوظ والشهوات، أرضيتم بالحياة الدنيا الدنية، بل الحياة الأبدية، في الحضرة القدسية؟ أرضيتم بحياة الأشباح بدل حياة الأرواح؟ فما متاع الحياة الدنيا الفانية في جانب الحياة الأبدية في الحضرة العلية، إلا نزر قليل حقير ذليل، إلا تنفروا لجهاد نفوسكم، يعذبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب، وشدة التعب والنصب، وتوارد الخواطر والهموم، وترادُف الأكدار والغموم، ويستبدل قوماً غيركم يكونون عارفين بالله، مَرْضيين عند الله، راضين عن الله، والله على كل شيء قدير.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9